شىء من المطر البارد .. تخلل معطفه الخفيف
رفع ياقته ليحمى عنقه من صرير البرد المفاجئ الذى حلّ دون مقدمات
.. كما هى الحال دوماً فى هذا البلد الشتوى
أخبر ساقاه أن تمضى به إلى حيث تريد .. وهو لن يمانع إختيارها أياً كان
فسارت إلى حيث لا يعلم
يفكر فيما إذا كان قراره صحيحاً من البداية
يتذكر والده كيف كان يربيه على أهمية أن يكون مثقفاً طالباً للعلم
كان يريده أن يكون أكثرهم تفوقاً بين زملائه
لم يرضى أبداً أن يكون أقل من الأول على فصله
كان يريده أن يكون .. ويريد .. ويُريد
مضى بجوار بعض المحال التجارية الفارهة .. وبعض المطاعم الهندية والصينية .. بل واللبنانية
تدّعى هذه المدينة الباردة بتبجُّح أنها تستطيع ضم العالم بأكمله بين طياتها
وتتجمل فى ذلك بتوفير بعض نهكاتهم
حمقاء هى إن ظنت أنها بذلك قد تحتوينا حقاً
خاصةً نحن ... العرب
يسير على مهل
يتأمل كل شىء كأنه لأول مرة يتجول فى لندن وشوارعها
وتنسى قدماه أنه أمضى هنا ما يتخطى العامين
ولكنه ما زال لا يحفظ شوارعها .. ولِم يفعل؟ .. هى ليست له
هو الأن فى فترة تحضير رسالة الدكتوراه خاصته
عاجزٌ تماماً عن إكمالها
يشعر بأنه ورط نفسه فى مجالٍ لا يشبهه
يشعر بأنه لم يعد هو
وكيف ينهى الدكتوراه وهو لا يعرف نفسه
ألم يكفِ والده إنهائه لماجيستير الهندسة بإمتياز بعد عناء وجُهد جبّارين فى شىء لا يهواه فى تماماً
ولكنه أصر عليه أن يكمل رحلته حتى الدكتوراه .. لينام مرتاحاً فى قبره
يواسى نفسه بأنه يفعل ذلك مرضاةً له
هو الذى كان يشتد غضبه إن خالفه الرأى أو إشتد عليه معارضةً .. حتى يُصاب بالإعياء ويرقد فى الفراش عدة أيام بسبب إرتفاع ضغط دمه الحاد .. ومرض القلب والسكرى
يتنهد تنهيدة عميقة
لا تزفر شيئًا من توتره ويأسه وإحساسه بالقهر
القهر الذى لم يستطع الفكاك منه إلا بإلقاء نفسه فى الغربة التى لم يدر عنها شيئًا حتى نال من حريقها جانب
شعر حينها أنه سيتحرر
ولكن الأمر كان أكثر ثِقَلاً مما تخيَّل
لماذا تصرّ هذه المدينة على نشع البرد فى عظامه .. هو الذى شبّ جسده على شمسٌ أخرى
لا تخجل من الظهور كخاصة هنا
هنا بلاد لا تخجل شيئًا .. ولكن شمسها تستحى من الخروج
هذه هى عادة الغرب القاسى دوماً .. علينا نحن بالذات العرب
يأخذ أوطاناً بنيناها ليمنحنا جنسية " مُغترب" وجواز سفرٍ الحزين
.. بجانب طبعاً ليالٍ مؤرقة لا حصر لها من الوحدة والمحاولات الجوفاء فى إدِّعاء الألفة
والإنجذاب إلى أى شىء يحمل ريح الوطن .. ولو كان طبق من الفول أو صحن تبّولة
يصمت قليلاً عن إتهاماته الغاضبة .. وتذمره من كل شىء
يعلم أن هذا لن يولِّد إلا دمعاً حاراً يمزق الحلق
يمضى مُنكسراً بإختياراته .. يأبى البكاء
بدأ ظهره يؤلمه فعلاً من فرط البرد
ومن فرط التفكير فيما كان له ولم يعد كذلك
وفيما ورَّط نفسه فيه
قيد كبير ظن أنه سيُعتَق منه بالسَفَر .. فصار قيداً أكبر وأثقل بكثير مما تخيَّل يكبل معصمه
عليه أن يعود الأن .. لقد تَعِب
أوقف التاكسى الأسود المشهورة به هذه المدينة المتأنقة
وقال :
" Edgware Road, Please "
ينظر له السائق فى المِرآة ليرى إذ ما كان عربيًّا
بجانب إسم هذه المنطقة بالتحديد .. و ملامحه القمحية المشبعة بشمس الطفولة والمنشأ .. لم يعد هناك مجال للشك
يلوى السائق شفتيه فى تذمر ويشغِّل العداد
...
وبعد لحظات طويلة كاد يغفو فيها من دفء التاكسى يصل لوجهته
.. ينفح السائق الأجرة ويخبره أن يحتفظ بالباقى ..
هذا ليس من عادته .. ولكنه أراد فقط أن يكسر شوكة هذا المتغطرس ونظراته الحادة
يعود لشارع يحمل الكثير من ملامح العرب هنا .. و نكهاتهم بالطبع
يقرر أن يدخِّن بعض الأرجيلة وهو يشرب كوب شاى النعنع خاصته أثناءتصفحه لجريدة مصرية مر عليها يومان
بعض الوجوه المألوفة .. والكلمات القريبة من الذاكرة .. والنِكات والنقد السياسى للوطن
يعود جريان دمه بسلاسه .. بعد أن ذابت قطع الجليد التى شابته
يدخل بيته المأجور ذو الأثاث القليل
يدخله فقط لينام
وَحشة البيت الفراغ .. فى البلاد الفارغة .. هى الأسوأ على الإطلاق
ينام مُحيكاً بعض الأمال التى ينوى إرتدائها على روحه العجفاء فى الصباح
عليه أن يكمل ما بدأه .. فقد شارفت المُهلة المحددة لتقديم رسالته على الإنتهاء بعد بضعة أشهر
ينام .. ويحلم
~ " رحلتنا من القاهرة لبيروت ستستغرق ساعتان تقريباً " ~
~ " هنا من قمرة الكابتن .. أتمنى لكم رحلةً سعيدة " ~